الفنّ التّشكيلي المعاصر في لبنان
وإنعكاساته على الفنون التّشكيليّة العربيّة
بقلم: حسين أحمد سليم
مع نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين, ظهرت في لبنان بعض المحاولات الأولى في الرّسم والنّحت كنواة ماهدة لولادة التّشكيل الفنّي اللبناني, إقتصرت بداية على رسم وتصوير بعض الشّخصيّات الرّوحيّة الدّينيّة وبعض الرّجالات السّياسيّة والإجتماعيّة, التي كانت بارزة في ذلك الزّمن, وإنحصرت في بعض نواحيها بحركة فعل نقل ورسم ومحاكاة بعض المشاهد الطّبيعيّة, وتحقّقت عمليّا وتنفيذيّا ضمن أساليب التّقاليد الفنّيّة التي كانت سائدة, كالكلاسّيكيّة والواقعيّة والطّبيعيّة...
وبرز من روّاد تلك الحقبة الزّمنيّة في فنون الرّسم والتّصوير, نعمة الله المعادي وحبيب سرور ( 1860 – 1927 ) وداود القرم ( 1854 – 1930 ) وخليل الصّليبي ( 1870 – 1928 )... وظهر في تلك الفترة أيضا وبرز في فنّ النّحت يوسف الحويّك, الذي أنشأ له مرسما يلتقي فيه الكثير من فنّاني ومثقّفي تلك المرحلة... هذا, وبرز أيضا في فنون الرّسم, مصطفى فرّوخ من بيروت, وفي فنون النّحت الأخوة: ميشال بصبوص ويوسف بصبوص وألفرد بصبوص, في راشانا, جبل لبنان ...
النّتاجات الفنّيّة التّشكيليّة, التي أبدعها التّشكيليّون الفنّانون والنّحّاتون الأوائل في فترة الثّلاثينات من القرن العشرين, تميّزت في غالبيّتها بإنتمائها إلى مدرسة الطّبيعة في موضوعاتها وموادّها وتشكيلاتها...
أبّان منتصف الأربعينات من القرن العشرين, تأسّست الأكّاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة ( الألبا )... وتوجّه خرّيجوها إلى البلاد الأوروبّيّة لإستكمال دراساتهم في الفنون التّشكيليّة... ثمّ شهدت فترة عودة الرّعيل الثّاني إلى لبنان في الخمسينات من القرن العشرين, حركة إزدياد في نشاط أولئك التّشكيليين من الفنّانين والنّحّاتين, إضافة لفعل حماساتهم في عمليّة إغناء الحركة التّشكيليّة الفنّيّة اللبنانيّة, لتتبلور خصائص تلك الحقبة وتتجسّد عمليّا بتأسيس جمعيّة الفنّانين اللبنانيين للرّسم والنّحت, وبدعم من فنّاني الرّعيل الأوّل... بحيث بدأت حركة فعل نشاط المعارض السّنويّة والموسميّة الخاصّة والمشتركة, إضافة لتنظيم وتحديد المنح الدّراسيّة الجامعيّة على أساس المبادرات...
خلال العقد السّادس من القرن العشرين, حظيت الحركة التّشكيليّة الفنّيّة اللبنانيّة بإهتمام أكبر, وبرزت النّشاطات التّشكيليّة الفنّيّة رسما ونحتا, على أكثر من صعيد محلّي وعربي ودولي, كما أنّ معهد الفنون الجميلة في جامعة الألبا وفي الجامعة اللبنانيّة, عدا عن المعاهد الفنّيّة الأجنبيّة, قد ضخّوا ورفدوا الحركة التّشكيليّة اللبنانيّة, بدماء جديدة من خَرّيجيهم في فروع الرّسم والنّحت والزّخرفة والهندسة التّجميليّة والهندسة المعماريّة...
يُعتبر موقع لبنان من خارطة العالم العربي, وبحكم تواصله الباكر مع البلاد الأوروبّيّة, كمركز أساس تتجاذبه حركات التّيّارات الشّرقيّة والغربيّة, بحيث طغت ظواهر البحث والتّجريب في حركة عمليّات اللون وفعل صياغات الأشكال... بحيث تحوّلت المنهجيّة التّشكيليّة الفنّيّة اللبنانيّة, وما عادت تُظهر تلك الأعمال التّشكيليّة الفنّيّة اللبنانيّة, التي ترى الفنّ مضمونا وتعبيرا وأسلوبا وجماليّة, ترتبط بثقافة لبنان العربيّة وحسب... فقد حدثت تداخلات في عمليّات التّحوّل التي جرت حينها في مسارات الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة, فيما بين طبيعة الحياة ووسائل تحقيقها, وبين أنماط التّحوّلات الجديدة, والتي جرت في حركات فعل الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة, بتحديث إرتباطاتها بغزو المفاهيم التّشكيليّة الفنّيّة الغربيّة وتقنيّاتها... تلك الأنماط المستحدثة والمستجدّة من الحياة, طرحت على صياغات ونزعات الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة, بتقنيات حديثة ومستحدثة, أسهمت في عمليّات تطوير وتحديث الفنون التّشكيليّة العربيّة بشكل أساسي, من خلال تفاعلات وتواصل وتداخلات أقطاب الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة, بالفنّانين التّشكيليين رسما ونحتا في المحيط العربي, وذلك بما تداخل وولج إلى ذهنيّة الفّنانين التّشكيليين اللبنانيين, وتقبّلهم السّريع لما كان يجري في البلاد الأوروبّيّة على صعيد الفنون التّشكيليّة... بحيث تعكس مدى الحساسيّة الشّديدة, التي أثّرت في طراز وتفكير وتصوّر وبحوث, وطبيعة منطلق الفنّان التّشكيلي اللبناني في حركة وفعل الرّؤية والنّظرة الفلسفيّة, للمعطيات الإجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة والإقتصاديّة والمعرفيّة والحضاريّة...
ذلك المناخ الذي كان سائدا في البلاد الأوروبّيّة, والذي تأثّر به الفنّانون التّشكيليون اللبنانيون أبّان تواجدهم في معاهد الفنون بالجامعات الأوروبّيّة, وحملوا تلك المؤثّرات معهم إلى لبنان, ومن ثُمّ ساعدت وساهمت على نموّ البحث التّجريبي والفلسفي في صياغات تقنيّة مغايرة وفي تطلّعات رؤيويّة حديثة, ممّا أبعد الجوهريّة في صلب جوهريّات الفنون التّشكيليّة العربيّة والإسلاميّة... وبالتّالي إعتماد تلك المناخات الجديدة منطلقا صالحا لتحقيق الدّراسات والبحوث والتّجارب الفنّيّة التّشكيليّة...
إنّ حركة فعل الحوار أو التّحاور بين مستجدّات ووقائع الحركة التّشكيليّة اللبنانيّة الحديثة والمعاصرة, وبين ما هو مُنتهج كخلفيّة قائمة لثقافة الأمّة العربيّة, ومن زاوية نظر فنّيّة جديدة ومعاصرة, تحمل كلّ مقوّمات الحيويّة وجرأة الموقف, تنبض بفتعليّة التّوجّه الليبيرالي, هو ما جعل من سحب جوهر التّراث إلى التّجربة الحديثة متاحا وممكنا... وليس ذلك الأمر والتّحوّل إمتيازا للفنون التّشكيليّة اللبنانيّة وحسب, بل هو جزء فاعل من حركة فعل محاولات الفنّانين التّشكيليين العرب في الكثير من الأقطار العربيّة... وهنا تبرز من خلال تداخلات الحوارات والتّواصل, الإزدواجيّة الفكريّة والتي بدأت بالإضمحلال من خلال بناء الإنفتاح العربي على الغرب, ومن خلال بناء النّهضة الحضاريّة المتجدّدة, وهو ما زاوج بين الإنتماء الفنّي التّشكيلي إلى الحضارة الغربيّة, وبين الإنتماء الحضاري للأمّة العربيّة والإسلاميّة, وفعل الحفاظ والإلتزام على أساسيّات ومنطلقات الفنون التّشكيليّة لها, لبناء شخصيّة وهيكليّة وبعث وجودها المؤثّر في المسيرة الإنسانيّة من خلال رؤى الفنون التّشكيليّة...
الفنّانون التّشكيليّون اللبنانيّون بتنوّعهم الأسلوبي للفنون التّشكيليّة, يسعون إلى خلق لمسات جماليّة تشكيليّة في تحقيق مشهديّاتهم موضوعا وتصوّرا, بما يخلق للفنون التّشكيليّة اللبنانية سمة خاصّة... فيما يبقى هذا الفعل رؤى مشروع مقترح, لدى البعض من الفنّانين التّشكيليين العرب, لأسباب عديدة تتفاوت فيها معطيات الوقائع والتّجارب والخلاصات والتّقنيّات من فنّان إلى فنّان عربي آخر, وعلى الرّغم من التّباين في التّعامل مع الوقائع والحقائق في عالم الفنون وحركة فعل مطابقتها لمسارات وتفاصيل الحياة...