تحوّلات الفنّ التّشكيلي اللبناني المعاصر
وإنعكاسات نتاجاته محليّا وعربيّا من خلال وما بعد التّغيّرات الميدانيّة من جرّاء الإعتداءات الإسرائيليّة والحراكات الشّعبيّة
بقلم: حسين أحمد سليم
منذ فجر التّاريخ وقوى الإستعمار على مختلف توجّهاتها, تخطّط وتعمل لضرب مكوّنات وحدة الشّعوب, تحقيقا لواقع مستحدث يقوم تحت عنوان: التّفرقة والسّيادة والتّسلّط ونهب الثّروات... وهو ما خطّط له سابقا, ويُخطّط له هذا الإستعمار ودائما, مستخدما كلّ السّبل الآيلة, لتحقيق رؤى ونظريّات تخطيطاته... وبالتّالي العمل على تقويض وإضعاف, ومن ثًمّ ضرب وحدة الشّعوب, وبالتّالي ضرب الوحدة العربيّة, والحؤول دون تحقيق توحّدها وتكاملها...
ما قبل الحروب والإعتداءات الإسرائيليّة, وإشعال فتائل الحروب الطّائفيّة في لبنان, ولاحقا في الوطن العربي الممتد... كانت نتاجات الأعمال التّشكيليّة الفنّيّة, التي تقوم بفعل خلقها أنامل وأيادي وقبضات الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, كانت منتفضة في رؤيتها وتطلّعاتها على مجريات الواقع المعاش, ذلك الواقع الذي كان سائدا ما قبل إفتعال الحروب والثّورات والحراكات الشّعبيّة, داخليّا وخارجيّا, وكانت حركات فعل النّقد والإنتقاد تتجلّى من خلال الخلق والإبداع, رسما ونحتا, ومعمولا بها من قبل الكثير من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, ومن خلال الكاريكاتتوريّون والصّحافة اليوميّة والدّوريّة, حتّى حصلت تلك الإعتداءات الوحشيّة, وأتت الحرب المشؤومة, وفرضت وحشيّتها على الواقع المعاش, والطّمأنينة التي كانت سائدة بين الجميع...
هذا التّحوّل الذي فرض ذاته ميدانيّا, هو ما حدا ببعض الفنّانين إلى حركة فعل التّحوّل, من حالة المراقبة والمشاركة المباشرة إلى حالة من التّأمّل الذّهني, ولدى صفوة قليلة من المبدعين والخلاّقين... في حين توقّف البعض الآخر من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, عن المشاركة في التّعبير والتّجسيد الفنّي, عن هول الأحداث الأليمة, وفداحة الثّمن الباهظ, الذي دفعه الشّعب في لبنان حينها, كجزء ممّا يُناضل من أجله الشّعب العربي في صراعه ضدّ الصّهيونيّة الدّوليّة, وكافّة أشكال الإستعمار المختلفة, سيّما الإحتلال الإسرائيلي لدولة فلسطين وإغتصاب أراضيها بغير حقّ, وتهجير الفلسطينيين تحت الضّغوطات اللامشروعة وتشتيتهم في الأقطار العربيّة وغيرها...
في تلك الحقبة المريرة, والتي أرخت يثقلها على الواقع اللبناني, مثّل بعض الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, بعض جوانب رؤاهم في بعض نتاجاتهم الفنّيّة التّشكيليّة, رسما ونحتا, والتي أظهروها تعبيريّا وتجريديّا وواقعيّا, في بعض مشهديّات معارضهم في لبنان والعالم العربي والغربي... فيما البعض الآخر من الفنّانين التّشكيليين اللبنانيين, لجأ إلى حالة من التّرقّب والتّريّث ومتابعة ما يجري عن بعد, تلك الحالة التي شحذت همّة ذلك الفنّان, وأفعمت نفسه, وحرّضته ودفعته لاحقا, في عمليّة الخلق والإبداع والعطاء, من خلال رؤيته لمجريات الواقع المؤلم بالأمس, وتوظيف تلك الرّؤى التي تتناهى لخيالاته ووجدانه, في حركة فعل الخلق والإبداع... بحيث تسرّبت عند الفنّان التّشكيلي اللبناني ذلك, الأفكار والرّؤى التي كانت مزدحمة في حنايا ذاته فترة التّرقّب والتّريّث, والتي أرخت بثقلها على منعه يومها من فعل الإبداع, وتصوير الوقائع, لينهض ذلك الفنّان نفسه بعد حين معيّ،, وبعد أن لملمت الحرب المؤسفة بقاياها, ويعاود بهمّة ونشاط, فعل الخلق والإبداع على صعيد الفنون التّشكيليّة, وكتابة تاريخ الفنون التّشكيليّة في تلك المرحلة القاسية, والتي تؤشّر, لوجود فنّانين من طراز خاصّ, أثّرت أعمالهم بإتّجاهات وصياغات كثيرة تتعلّق بخصائص تلك المرحلة, التي إنقضت بكلّ ما تحمل من تفاصيل...
فالحرب التي فُرضت في تلك الحقبة التّاريخيّة على اللبنانيين ولبنان, كانت حربا حضاريّة, إقترنت بالجانب السّيّء لها, وكانت وراء حياكة ذيولها ومسبّباتها الصّهيونيّة الدّوليّة والإستعمار, بوسائل عديدة ومختلفة, برزت فيها كلّ خفايا براثن العنصريّة, وكشّرت عن أنياب الطّائفيّة, وأعلت رايات الحزبيّة الدّينيّة, وحركات فعل الإستعلاء والإستكبار, والإغراق في مستنقعات الوصوليّة وطمي الإستغلاليّة, ونهب أنواع الثّروات الطّبيعيّة الوطنيّة, وتركيز وتأصيل الإقتصاد النّفعي, من خلال فرض سياسة الأمر الواقع...
هذا, وليس في عمليّات تدوين تاريخ الفنون التّشكيليّة, من يكتب سطورها ويؤرّخ لها, دون تلك العلاقة الغائبة, ودون تلك المكوّنات والحقائق والتّفاصيل, التي تُحيط بحركة الصّراع العربي الإسرائيلي, وبمراحله التّاريخيّة, وتوسّعاته الجغرافيّة...
من هنا, فإنّ الفنون التّشكيليّة اللبنانيّة, والفنون التّشكيليّة العربيّة, الحديثة والمعاصرة, سواء في لبنان أو الوطن العربي, ما هي إلاّ كما باقي السّمات, إنعكاسات للحروب الحضاريّة, النّاشبة بين الأمّة العربيّة والإسلاميّة وبين الإستعمار, بكافّة أشكاله العسكريّة والثّقافيّة والحضاريّة والإعلاميّة... كقوّة تنتمي إلى حضارة أو حضارات أخرى, وإنّ حرصنا على إستخلاص القيم الإبداعيّة, لفنوننا التّشكيليّة المحلّيّة والعربيّة والإسلاميّة, لا يمنعنا من أن نعيش عصرنا, ونستفيد من التّطوّر الحضاري والثّورة الصّناعيّة والرّقميّة... وأن نتعامل مع المنطلقات الحضاريّة لهذا العصر, كما لو كانت منّا وإلينا كاملة, والعمل على الإستفادة من جميع معالمها وتقنيّاتها, مع الإحتفاظ بثوابتنا, وفي تحقيق ما نسعى إليه, لخلق الذّات المبدعة في جوهرها...