بسم الله الرحمن الرحيم
إن من بواعث كتابة هذا البحث المتواضع هو انشغال الشباب على المستوى الفكري والإقتصادي والإجتماعي والسياسي ببعض المذاهب الفلسفية التي لم تتبلور في الأصل لتُخرج لنا فكرا ًواضح المعالم ومميز الجوانب وله تأصيل
فعلى سبيل المثال إذا تحدثنا عن العلمانية فنرى بعضا ًيٌفسرها بتحرر النظام السياسي من القيود سواء الدينية أو الإجتماعية (فيما يُعرف بالتقاليد)
ونرى آخرون يُفسرونها على أنها تحرر النظام السياسي من قيود الزمان والمكان بالإنفتاح على كافة النظم الثقافية والفكرية وإن كانت مُخالفة
وغيرها من التفسيرات الكثيرة التي لا حصر لها ولا عدّ
حتى أن الموسوعات الفلسفية والإجتماعية تحتار في تعريف هذه المفاهيم
فالعيب ليس في جهل العامة أو أصحاب الفكر ذاتهم
بل في عدم تقيد هذا الفكر الفلسفي بالضوابط
وبالتالي فهو طارئ للتغير - بل وللتناقض - مع كل عصر حتى وإن خالف مبادئه الأصلية
ولنقل أنه يتلون ويتشكل حسب مطالب العصر
فهناك ظاهرة تعرف بالتعددية والتباين للظاهرة الليبرالية فلا يمكن القول بأن كل الأحزاب التي تتسمى بالليبرالية هي ذات مناهج ليبرالية ولا يمكن القول بأن كل الأحزاب التي لا تتسمى بالليراليبة لا تنتهج المنهج الليبرالي
ولنقل أن الليبرالية الإجتماعية هي حرية الاعتقاد والتفكير والليبرالية الاقتصادية تعني حرية الملكية الشخصية والليبرالية السياسية تعني حرية الإجتماع وتأسيس الأحزاب واختيار النظم السياسية
ويرجع عدم وضوح تفسير واضح لليبرالية أن بُعدها التاريخي نشأ قبل فهمها الإصطلاحي الذي ظهر متأخرا ً
تارة ًتُنادي بحرية فردية غير مقيدة بقوانين دولة أو شرائع دين أو تقاليد عرق , حرية مطلقة تسمح للفرد بعيشة كريمة وسعيدة
وتارة ًتدعوا لتقييد هذه الحرية بعدم إيذاء الغير وعدم المساس بحرياتهم والتقيد بالوازع الأخلاقي الذي نستنبطه إما من قوانين وضعية أو شرائع دينية أو تقاليد عرقية
أما عن الحرية الفردية فقد تتعارض - بل وهذا مؤكد – مع حرية الآخرين ومصالح المجتمع
فالفرد حر أن يشرب الخمر ولكن بالتأكيد سيذهب عقله ويقل علمه وعمله فيضر بالوضع الإقتصادي للدولة
وعلى هذا فالحرية مشروطة ومقيدة !!!
وقد تباهى أصحاب الفكر الليبرالي وتشدقوا بدعواهم للحرية وكأن المخالف لهم هو مهاجم للحرية وداع ٍللإستبداد
ولابد من التفريق بين الليبرالية التي تشكل مذهب فلسفي وبين الحرية كقيمة مثالية يرقى لها كل مذهب
والمدقق يُلاحظ أن هذه الصورة في الأصل هي قمع للحرية وتقييد لغير المنتمين لليبرالية لنشر دعواهم
فقد مثّل الليبراليون أنفسهم بأنهم الدعاة للحرية ومخالفهم مستبد وطاغ ٍ
وعلى هذا فهو منبوذ ومكروه
فالإنسان كائن عارف مثالي جمالي ينجذب إلى كل ما يُبهر عينه بالقيم المثالية والكلام المعسول حتى وإن خالف الحقيقة
فالإفلاس بعينه أن تصور مذهب من المذاهب البشرية على أنه جسّد مثلا ًمن المثل وأنه لا مجال من بعده إلا إعلان نهاية التاريخ نسبة ًإلى فوكوياما الأمريكي من أصل ياباني والداعي لليبرالية الحديثة بقوله أننا بلغنا نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية الذي يتمثّل في كونية النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي كشكل نهائي للحكم الإنساني
والعجيب أن سبب إبادة الهنود الحُمر وسقوط الشعوب الأفريقية الفقيرة في مذلة الإستعباد هو نتاج فكر ليبرالي وبرلمانات تنتهج المنهج الرأسمالي من أجل تسخير القوة البشرية واستغلالها في المدن الصناعية ولا يكون ذلك إلا بتحرير العامل الفقير من الإقطاعية إلى الليبرالية ولكن خرج من عبودية لينزلق في أخرى باسم الحرية
هو هو ذات الوجه المشوه للشيوعية الماركسية وأصحاب الفكر الإشتراكي
فعليهم أن يُعيدوا برمجة أساليبهم وأفكارهم للقول بأنها حرية مشروطة ولها قوانين وكفاهم لعبا ًبعقول الضعفاء
وليُعلنوا أنهم ينزعون إلى الحرية ولا يُجسدونها فهذا هو احترام العقول المفكرة والواعية
فليست الليبرالية هي جنة الله على الأرض كما يصفها أهلها وليست المنهج المثالي للتحرر والإنطلاق بل هي أطروحة فلسفية غير واضحة المعالم ومتضاربة من مفكر لآخر وليس لها أصول يُمكن الإستناد عليها فهي متشكلة مع كل مجتمع
وهذا في ظاهره قد يظهر أنه حسن وليس فيه عيبا ًولكنّ عواقبه خطيرة
في أنها ليست ليبرالية بل ليبراليات متعددة
فليبرالية ترى أنه على الفرد التنازل عن بعض حرياته للحكام لوضع القوانين التي تحدد علاقته بالمجتمع
وليبرالية ترى أن الحرية الفردية لاتخضع لقوانين أو شريعة مادامت لا تضر بالآخرين
وليبرالية تحلم بالمدينة الفاضلة ولو على يد فاضل مستبد
وليبرالية تحلم برأسمالية خيالية لاتخضع لمصالح الأفراد ولصراعات العرض والطلب بل تنظر في العمق لمصلحة العموم
وهكذا ترى المنهج في داخله به شقوق وتناقضات
سأذكرها تفصيلا ًإن شاء الله في أجزاء قادمة